بالعلم تترفع عن كثير من النقائص ... رسالة أب إلى ابنه
بالعلمِ تَتَرفّعُ عن كثيرٍ من النّقائصِ (رسالةُ أبٍ إلى ابْنه)
بُنيَّ، يا أحبَّ الناس أجمعين ..
لا أملِكُ أن اختـار لك قناعاتك أو منهج تفكيرك، ولا أَستطيعُ أن انتقيَ لك قيماً تتبناها، أو اهتمامات تمنحها وقتك وطاقتك، وليس لي أن أجبرك على دروب في الحياة تسلكها، أو أن أضع لك أهدافاً ليكون إليها مرماك ومسعاك، فإنك صاحب رأي وإرادة، وذو عقل يدرك ويُرجّحُ ويختار، ويتحمل المسؤولية عمّا اختاره، وعمّا ضحى به أيضاً .
إنما هي ـ يا ابْنيْ ـ كلماتٌ قد تنفعك في حياتك، أو قد تسلط لك الضوء على جانب لم تكن قد تنبّهت إليه، أو تفتح أمام تفكيرك أُفُقاً جديداً، أو تبعث في خلدك سؤالاً يبحث عن إجابة، أو تجعلك تتأمل أمراً كنتَ مررت عليه ولم تُطل التمعّن فيه . كلماتُ أبٍ لاحظ وقرأ وتفكّر وجرّب واستخلص، نجح حيناً، وفشل أحياناً . شقي طويلاً وارتاح قليلاً . لكن لا شيء يهمّهُ أكثر من أن ينجح ابنه في كل حين وحال، وينال السعادة دائماً وأبداً .
ولو أني ـ يا بني ـ رتّبتُ القيم التي أحبُّ أن أَدعوك إليها، أو أحفزك على تبنّيها، أو أحاول التأثير فيك لكي تتمسك بها، إذن لاخترتُ قيمة العلم كأول قيمة، ولعلك تدرك يا بُنيَّ أني لا أعني بالعلم معناه السّطحي، أي لا أعني به مجرد المعرفة بالشّيء، وإنما أَقصد به العلم الذي هو ضد الخرافة، أعني به المنهج العلميَّ المستند إلى التفكير القويم، وإلى المقدمات الصحيحة التي تقود لنتيجة سليمة، باستدلال منطقي وتجربة وبرهان . المنهج الذي لا يقبل بمجـرد النقل والاقتباس، ويأبى التلقين، ويرفض الفكر المُعدَّ سلفاً دون محاكمـة ونقد .
أضمن لك يا بني إذا أنت انتهجت الطريق العلمي في التفكير أنك سوف تترفع عن نقائِصَ كثيرة، أولها أنك ستكون مترفّعاً عن ضيق الأفق . وأكثر تجليات ضيق الأفق تكون فيمن يحسبُ نفسه أو مجتمعه أو أمته أو ثقافته أو حضارته أو هويته مركزاً للكون، ويحسب أن الكواكب والشموس تدور في ذلك الفلك وحده دون سواه، فهو على ذلك يُبغِضُ الآخر أو ينكره، ولا يستطيع تفهّم حضارات الناس واختلاف ثقافاتهم، وينكر عليهم حقهم في التفكير والاختيار، ولا يعترف بأي إسهامٍ لهم في خير البشرية ... ويدعي لنفسه السبق في كل شيء .
ويكون ضيق الأفق كذلك يا بُنيّ، فيمن لا يستطيع أن يدرك نسبية الحقيقة، ولا يتصّور الخير إلا فيما يعتقد، أو فيما ورث، أو فيما اقتبس، أو فيما تم تلقينه لـه وهو صغير، ولا يتصور الصواب إلا فيما هو مألوف أو مستقر أو متداول في بيئته . ومن ضيق الأفق كذلك ألا تتمكن من النظر للأمر ـ أي أمر ـ إلا من زاوية واحدة رغم أن زوايا النظر في الحياة متعددة : نفسية واجتماعية واقتصادية ... وأغلب الوقائع والأحداث والظواهر لا يكون لها سبب واحد بل عوامل متعددة وأسباب، ومن ضيق الأفق اختزال زوايا النظر، وعدم رؤية الشيء إلا بنظرة جزئية لا تدرك كل جوانبه .
ثم اعلمْ يا ابْنيْ أن العصبيّة وضيق الأفق صنوان، انبثـقا عن أصل واحد، ومن ضيق أفق المتعصِّب اعتقاده بأن كل ما وُلِدَ عليه وورثه من جنس أو لون أو فكر أو عُرف أو عادة هو الحقيقة الوحيدة وما سواها باطل . أمّا أهم ما بقي مما يجب أن أقوله لك حول ضيق الأفق، أن الحياة علمتني أن من ضاق أفقه ضاق صدره، ومن اتسع أفقه اتسع صدره، وسعة الصدر يا بُنيَّ سماحة وتسامح وتفهّم وحِلْمٌ وصبر .
وأضمن لك يا ابْنيْ كذلك بإتباع المنهج العلمي أن تكون مترفعاً عن الخرافة، ولا أعني بالخرافة مجرد الخزعبلات والشعوذة والتنجيم والرجم بالغيب وادّعاء القدرات الخارقة والتأثيرات التي لا تخضع لقوانين الكون، بل الخرافة هي كل فكرة أو مقولة لا تستقيم مع المنطق، ولا توافق العلم، ولا يسندها برهان أو تجربـة، لذلك فإن ثمة خرافات فكرية، وأخرى سياسية، وغيرها اجتماعية أو اقتصادية وهكذا، وينظر ذو التفكير السطحي إلى هذه الخرافات على أنها حقيقة، لأنها مكتوبـة أو منشورة أو منتشرة أو صادرة عن صاحب شهرة، بينما يرى ويلمس صاحب التفكير العلمي التناقض بين العناصر المكونة لهذه الخرافات، والتنافر بين مقدمتها ونتيجتها، والمغالطة في هيكلها وأساسها وبنائها .
وأضمن لك كذلك من خلال تبني منهج العلم في التفكير، أن تتّرفع عن التوافه والسفاسف والصغائر، فالذي يفكّرُ من خلال ما استقر في قوانين الفيزياء والكيمياء وعلوم الحياة والبيئة والاقتصاد وعلم النفس وعلم الاجتماع وسواها من العلوم، يستطيع أن يعرف الفرق ما بين الحجوم والأبعاد والمسافات والمقادير والنسب والقوى والتأثيرات، ولا يمكن له أن يتصور الحبة قبة، أو أن يستهين بالطاقة الكامنة في مجرد نواة ذرة، إنه يعرف ما يستحق من الأمور وزناً وقيمة فيضفيها عليها، ويعلم ما هو تافه متهافت فيجرّده من كل أهمية ووزن، حتى لو كان الأكثرون من الناس يضعونه في أعلى سلم القيم .
وأضمن لك يا بُنيَّ بهذا المنهج أن تترفع عن التقليد والتبعية والإمعيّة وعقلية القطيع، فبالمنهج العلمي يكون الشك لحين بلوغ الحقيقة، وتكون استقلالية الفكر، وتكون الأصالة والإبداع والإتيان بالجديد النافع غير المسبوق، بدل إبقاء مـا كان على ما كان، وبدل الاقتباس الأعمى، والتقليد الأبله، والتبعيّة المضللة .
وأضمن لك يا ابْنيْ أخيراً من خلال هذا المنهج، أن تملك كثيراً من الحكمة (ومَنْ يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) فالحكمة تكـون لمن يميّز بالفكر الصائب بين السليم والسقيم، والدائم والمؤقت، والغثّ والسمين، والتبر والتراب، تمييزاً قائماً على هدي من العلم والتجربة والمنطق .
أضمن لك يا بُنيَّ كل ذلك وأَكفُلُهُ، إن أنت اتخذت من العلم قيمة عليا، ومن منهجه دليلاً ومرشداً في تفكيرك وحكمك على الأحياء والأفكار والأشياء . لأني أثق بالعلم، فهو أكثر من قدم حلولاً لمشكلات البشرية، وقلل من تحديات البيئة والطبيعة لها، ومن قيود الزمان والمكان، التي ظلت دهوراً تشدُّ الناس إلى البؤس والعجز . ودمت يا بُنيَّ .