• عن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- قال: ( لَوْلا أَنْ أَشُقَّ على أُمَّتِي أو على الناس لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مع كل صَلاةٍ )(1). • و عن أَنَس بن مَالِكٍ قال: (ما صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَلَاةً ولا أَتَمَّ من النبي - صلى الله عليه وسلم-
وَإِنْ كان لَيَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَيُخَفِّفُ مَخَافَةَ أَنْ تُفْتَنَ أُمُّهُ)(2). • و عن أبي وَائِلٍ قال:كان عبد اللَّهِ يُذَكِّرُ الناس في كل خَمِيسٍ فقال له رَجُلٌ: يا أَبَا عبد الرحمن لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ. قال:
(أَمَا إنه يَمْنَعُنِي من ذلك أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يَتَخَوَّلُنَا بها مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا)(3). الحديث عن الرفق و الرحمة من أفق محمد - صلى الله عليه وسلم- يغيث القلوب الجرداء، وينعش النفوس الظمأى،
فقد تجاوز حدود الرفق والرحمة في أمور الدنيا التي ألفها الناس ممن أُلهم هذه الصفة، وعرف بها في حياته الزوجية والأسرية والاجتماعية. في حين تتجلى عظمة هذا الخلق النبوي حين يتخلّى الحبيب - صلى الله عليه وسلم- عن استمراء أحب الأمور إليه,
و أعزها لديه، التي هي من جملة العبادة؛ مخافة المشقة على أمته !! فيقول بأبي هو و أمي: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء ) و يصلي بالناس الجماعة فيحيي لذة العبادة بالوقوف والمناجاة لله رب العالمين، تلك الصلاة التي هي راحته وغاية أنسه وسعادته،
فيخفّفها عندما يسمع بكاء الصبي؛ رحمةً بأمه ، و رعايةً لعاطفتها الفطرية تجاهه.
قال النووي - رحمه الله-: فيه دليل على الرفق بالمأمومين وسائر الأتباع، ومراعاة مصلحتهم، وأن لا يدخل عليهم ما يشق عليهم،
وإن كان يسيراً من غير ضرورة(4).
لقد أدرك أصحابه - رضي الله عنهم- هذا الأدب الجمَّ من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم-، و بلاغةِ أثره عليهم،
وحاجتِهم إليه فاحتذوا به إتباعاً لسنته، واقتداءً بهديه . ففي مجال الموعظة ـ التي دعا إليها القرآن الكريم ـ نرى ابن عمر - رضي الله عنه- يتحرّى الأوقات المناسبة لنشاط النفوس واشتياقها للحضور
فيعظهم كل أسبوع،ن ويأبى تذكيرهم كل يوم بالرغم من سؤالهم لها. و يعلّل ذلك بقوله:" أَمَا إنه يَمْنَعُنِي من ذلك أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم-
يَتَخَوَّلُنَا بها مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا". قال النووي - رحمه الله-: فيه الاقتصاد في الموعظة لئلا تملها القلوب فيفوت مقصودها(5). لقد تجلّى لنا مما روي عنه - صلى الله عليه وسلم- في هذا الباب من الأحاديث الغفيرة عظم شفقته - صلى الله عليه وسلم- ورحمته بأمته،
وسماحة شريعته، حيث أرشدهم إلى ما فيه صلاح دينهم، واستقامة عبادتهم، وأمرهم بالتيسير في النوافل، ونهاهم عن التشديد فيها؛
ليمكنهم الدوام عليها بلا مشقة أو ملل؛ لأن النفس تنشط إلى ما تطيق من العبادة، ويحصل لها المقصود من العمل، وهو حضور القلب،
وانشراحه، فتتم العبادة مع المواظبة عليها ويكثر الثواب لتكرّر العمل وملازمته(6). و القليل الدائم خيرٌ من كثيرٍ ينقطع، وإنما كان خيرًا لأن به دوام الإقبال على الله سبحانه بالطاعة والذكر والمراقبة، وإخلاص النية،
ويثمر القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافًا كثيرة(7). • و الأحاديث الواردة في تخفيف النبي - صلى الله عليه وسلم- عن أمته، لا تنافي هدي النبي - صلى الله عليه وسلم- في الاجتهاد في العبادة،
والإكثار منها، والمداومة عليها، وإن أضرَّ بنفسه فصلى حتى تتفطّر قدماه، أو صام حتى يواصله يومًا ويومين؛ لأنه أعطي من الجَلَد والصَّبر
والقوَّة ولذََّة العبادة ما لم يؤت غيره، ففارقهم. لقد آتاه الله – سبحانه- قرة العين بذكره، والتنعّم بحبه، وبهجة النفس بطاعته، والشوق إلى لقائه، فلا شيء ألذَّ له من طاعته، وطيب حياته بعبادته،
فحاله أفضل الأحوال وأكملها ـ8ـ. ....
الهوامش: (1) متفق عليه صحيح البخاري (847) و مسلم (252). (2) متفق عليه، صحيح البخاري (676) ومسلم (470). (3) صحيح البخاري (70). (4) شرح النووي ج4/87. (5) شرح النووي على صحيح مسلم ج17/64 (6) ينظر: شرح ابن بطال (3/144)، شرح النووي (6/312)، شرح الكرماني (1/173)، فتح الباري (1/138)، عمدة القاري (7/209)، إرشاد الساري (1/189)، فيض القدير (4/354)، عون المعبود (7/56). (7) بتصرف يسير،شرح النووي (6/312). ـ 8 ـ ينظر: المفهم (3/1339-1340)، زاد المعاد (2/32)، طريق الهجرتين (ص474)، تحفة الأحوذي (2/382).
عن أبي سعيد الخدري قال: (بينما النبي - صلى الله عليه وسلم- يقسم ذات يوم قسما فقال ذو الخويصرة -رجل من بني تميم-:
يا رسول الله، اعدل قال: (ويلك من يعدل إذا لم أعدل؟) فقال عمر: ائذن لي فلأضرب عنقه، قال: لا......)(1) وعن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: بعث علي -رضي الله عنه- إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- بذهيبة فقسمها...فأقبل رجل غائر العينين،
مشرف الوجنتين، ناتئ الجبين، كث اللحية محلوق، فقال: اتق الله يا محمد، فقال: (من يطع الله إذا عصيت، أيأمنني الله على أهل الأرض فلا تأمنونني، فسأله رجل قتله أحسبه خالد بن الوليد فمنعه)(2). الحلم و العفو طبعٌ عزيز، وخلقٌ آسر: تتجلّى حقيقته في تلك المواقف التي يتجرأ فيها الآخر على إيذاء عرضك بالسبّ، أو انتقاد عملك أو التعرض لحياتك الخاصّة، بأسلوب همجي،
و ألفاظ غليظة، ونبرة حادّة، فلا تواجهه إلا بخير..!
ليست الأحلام في حال الرضى ** إنما الأحلام في حال الغضب(3)
والحقيقة أن توطين النفس على كظم الغيظ، والصبر عن الانتقام لها، وتربيتها على العفو والصفح مع من يجهل عليها، أمرٌ لا تخفى مشقّته،
لقوّة الداعي إلى الأخذ بالثأر، والرغبة الجامحة للحميّة للذّات، واستيفاء الحقوق. و حين نتأمل حال النبي - صلى الله عليه وسلم- المثقل بهّم الدعوة ومسؤولية الرسالة، وتلقّي الوحي، وقيادة الأمة لتكون خير أمة أخرجت للناس،
نرى صفاء الحلم والعفو يتدفّق في قسمات وجهه المشرق، وكلماته الرقيقة النّدية؛ ليكون علماً من معالم شخصيّته المعجزة . يعترض له (ذو الخويصرة ) بجفاء وهو يقسم للناس حظّهم من المال؛ فيناديه بفظاظة: يارسول الله، اعدل! و يأتي آخر رافعاً صوته، متطاولاً عليه يدعوه باسمه(يا محمد) مجرّداً من نعت الرسالة والاصطفاء! فيقول بملء فمه (اتق الله يا محمد) فلا تظلم في العطاء! إنها كلمة غاية في الشناعة والصّلف في حق خير البرية - صلى الله عليه وسلم- وأزكاهم عند الله - تبارك وتعالى-، المؤتمن على وحيه، وتبليغ رسالاته،
وبيان شرعه، وحلاله وحرامه، المخيّر حين نبوّته بين أن يكون ملكا أو عبدا فاختار العبودية، أتغرّه لعاعة من متاع الدنيا فينقض عهده مع ربه! ويجرح أمانته،
ويخالف رسالته، ويهدم مبادئه العليا!!! لقد كان لتلك الكلمات الجائرة صدى عنيفاً على سمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فأشعلت فتيل الغضب في نفوسهم، وتبادروا لقتله،
فما كان من الحبيب - صلى الله عليه وسلم- إلا أن منعهم من ذلك، واكتفى بالتأنيب والعتاب المؤثر (ويحك) وفي رواية:
(ويلك، من يطع الله إذا عصيت، أيأمنني الله على أهل الأرض فلا تأمنونني)، وفي رواية (أو لست أحق أهل الأرض أن أطيع الله؟). و يبلغ العفو منتهاه حينما يدخل مكة ـ حرسها الله ـ بعد كفاح طويل في الدعوة والجهاد في سبيل الله، فيجتمع أهلها إليه في المسجد
فيقول لهم: (ما ترون أني صانع بكم؟) قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. فقال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)(4). يا له من صفح جميل، و عفو بليغ، مأمول من ذلك الرجل الكريم الذي هو أهله، حيث يكون سائغا. و حين تنتهك حرمات الله تعالى، فإنه يشتدّ غضبه لله حتى يرى أثره على وجهه، فلا يعف عن منكر لا يرضاه الله – سبحانه-، أ
و يحلم عن إقامة حدّ من حدوده.
تعفو بعدل و تسطو إن سطوت به فلا عدمتك من عافٍ و منتقم(5)
و هذا هو التوجيه الشرعي الصحيح الذي نتعلمه من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم- للعواطف والمشاعر الثائرة، فلا يكون فيها انتكاسة بحيث
نغضب ونشتدّ غيضاً حميّة لأنفسنا، وأنسابنا، وأموالنا، وديارنا، ونكتفي بغضّ الطرف، وزمّ الشفاه، والحوقلة إذا انتهكت محارم الله – سبحانه- واستبيح حماه .
الهوامش:
(1) صحيح البخاري (5811). (2) متفق عليه. (3) أدب الدنيا و الدين (19). (4) سنن البيهقي الكبرى (18055). (5) أدب الدنيا و الدين (ص 223).
عَنْ أَنَسٍ أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً فَقَالَ: (يَا أُمَّ فُلاَنٍ، انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَك)
فَخَلاَ مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا.(1) عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَتْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ أَبِي، وَعَلَيَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ،
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (سَنَهْ سَنَهْ). قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَهِيَ بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنَةٌ، قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ فَزبَرَنِي أَبِي، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (دَعْهَا)،
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (أَبْلِي وَأَخْلِقِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي) قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ.(2) إذا شرفت النفس كانت للآداب طالبة ، وفي الفضائل راغبة، فإن اقترن بها علو الهمّة، ونبل الهدف كانت طيّبة الجنى، وارفة الظلال،
تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها! يقتات منها الصغير والكبير، ويأوي إليها القوي والضعيف، والغني والفقير. لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مع الناس تلك النفس الخيّرة، آيةً في اللين والتواضع، ومثلاً في السماحة واللطف،
بالرغم من نفوذ سلطانه، وجلالة قدره، و انقيادهم لأمره، و توقيره و مهابته. بل إن طاعته و محبّته مقدّمة على النفس، والأهل، والمال، والعشيرة...!
توافيه تلك المرأة (وفي عقلها شيء) في بعض الطرق الضيقة، المصطفة من النخيل، المسلوكة التي لا تنفك عن مرور الناس غالبًا(3)،
و تسأله حاجتها، و ما ثمّ لولا ما آنسته من الحبيب - صلى الله عليه وسلم- من تمام التواضع والقرب من المستضعفين،
ولينه في أيديهم، ومشيه في حوائجهم، وتشوقهِ إلى إرضائِهم، وسماعِ شَكواهُم، وقضاءِ شُؤونِهم . فيسعها النبي - صلى الله عليه وسلم- بعطفه المعروف، وتواضعه المألوف، ملبياً رغبتها بسخاوة نفس وتقدير:
(يَا أُمَّ فُلاَنٍ، انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَك) !!! فللّه لين ذاع في الناس صيته وخفض جناحٍٍ طوّق الوعر والسّهلا
و تأتيه جارية صغيرة هي : أمَة (بمفتوحة وخفَّة ميم) بنت خالد بن سَعيْد بن العَاصِ، تكنّى أم خالد (4)، و تقترب منه لترسم صورة أخرى رائعة من التواضع والعطف النبوي . نرى فيها النَّبي المربِّي - صلى الله عليه وسلم - وهديه القويم في رعاية الأطفال، وقربه من الصِّغَار، وتلقِّيهم بالبِشْر وسهولة الخلق.. والرحابة ... وشفقته على البنات خاصَّة ! ألا ترى إلى عظيم تقديره لأم خالد، واصطفائها من سائر القوم، وتشريفها بهديته، بعدما سأل الحضور من أصحابه
عمن يستحقها، وسكتوا حيرة، فاستشرفوا لها، وكانت تلك الجارية هي الجديرة بها، قَالَ: (مَنْ تَرَوَنَ أَنْ نكْسُوَ هذه؟ فسكت القومُ، قَالَ: ائتوني بأمّ خالدٍ). إنه يدعوها بكنيتها، زيادة في إكرامها، والاهتمام بها، وجيء بها تحمل في -رواية– لحداثة سنِّها –
(فَأَخَذَ الخَمِيْصَةَ – وهي كساء من خزٍّ أو صوف - بيده الشريفة فألبسه) إياها! وبالغ - عليه الصَّلاة والسلام - في العطف عليها، والإحسان إليها، والبِّر بها، (فَجَعَلَ يَمْسَحُ الأعلام – وهي ألوانها البارزة الصفراء أو الخضراء – بيده،
ويقول مادحًا لها، مثنيًا على جمالها وروعتها هذا: (سَنَهْ سَنَهْ)، بمعنى حسن، وما قالها الحبيبُ - صلى الله عليه وسلم - بالحبشيَّة،
وهو العربيُّ الفصيح! إلا محاكاة لُّلغة التي ألفتها منذ طفولتها، وتطييبًا لخاطرها، وطمعًا في إدخال السرور والبهجة إلى قلبها. ويَسْتمرُّ الحنانُ النبويُّ الدافئ ليحكي مشهدا مؤثِّرا من اللطف الغامر بتلك الصبية، دنت منه بعدما اطمأنّت لتواضعه ورحمته،
ولفت نظرها خاتم النبوة البارز بين كتفيه (كزرِّ الحجلة)،، فَتَاقَتْ نفسُها إلى لمسه، فطفقت تلعب به، مما أثار حفيظة والدها الذي نهرها بقسوة،
فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: (دعه)، فاستمرت تلهو به مرحًا مستأنسة برضى النبي - صلى الله عليه وسلم - مطمئنة إلى سماحته،
ثم يختم اللقاء الطيب بدعواتٍ لها مباركةٍ، يرددها ثلاثًا، ويمتدُّ أثرها إلى أمد ذاك اللقاء بما يحويه من المعاني القيِّمة للتواضع وخفض الجناح،
يمثل أنموذجًا من الدروس التربوية التي لها أكبر الأثر في بناء الشخصية العاطفية، وتربيتها على التواضع ودماثة الخلق على نحو أفضل.
الهوامش:
(1) رواه مسلم (2326) و البخاري (3786) وزاد بلفظ:" والذِيْ نَفْسِيْ بِيَدِهِ إِنَّكُم أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ)، مرَّتَيْن. (2) متفق عليه. (3) ينظر: لسان العرب (10/439)، مختار الصحاح (29)، الغريب لابن سلام (1/349)، الغريب للخطابي (1/729)،
مشارق الأنوار (2/268)، النهاية في غريب الحديث (2/284)فتح الباري (9/416). (4) الاستيعاب (4/1790)، أسد الغابــة (6/325)، الإصابـة (7/506)، المغني في ضبط أسماء الرجال (6).
عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مرّ على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء،
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: (دعه فإنّ الحياء من الإيمان).(1) عن أنس قال: (لما تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم- زينب أهدت له أم سليم حيسا في تور من حجارة، فقال أنس،
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:" اذهب فادع لي من لقيت من المسلمين، فدعوت له من لقيت، فجعلوا يدخلون عليه فيأكلون ويخرجون،
ووضع النبي - صلى الله عليه وسلم- يده على الطعام فدعا فيه، وقال فيه ما شاء الله أن يقول، ولم أدع أحدًا لقيته إلا دعوته، فأكلوا حتى شبعوا،
وخرجوا، وبقي طائفة منهم فأطالوا عليه الحديث، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم- يستحيي منهم أن يقول لهم شيئا،
فخرج وتركهم في البيت، فأنزل الله - عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ)، قال قتادة: غير متحينين طعامًا، (وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا)، حتى بلغ: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)).(2) عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم- أشد حياء من العذراء في خدرها،
حدثني محمد بن بشار حدثنا يحيى وبن مهدي قالا: حدثنا شعبة مثله، وإذا كره شيئا عرف في وجهه).(3) الحياء غذاء الروح، وحياة القلب، كما أن الغيث حياة الأرض، ورواؤها، وبهجتها. وعلى حسب حياة القلب تكون قوّة خلق الحياء، فكلّما كان القلب أحيا كان الحياء أتم، وقلة الحياء من موت القلب والروح .(4) و لمّا كان الحياء بهذه المنزلة العظيمة من حياة الإيمان في القلب، واقترانه به ودوامه فيه، كان النبي - صلى الله عليه وسلم-
أعظم هذه الأمة حياءً، شهد له ربه – سبحانه- بهذه الصفة الكريمة في محكم تنزيله فقال: (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ) [سورة الأحزاب : 53]. ومن تأمّل هذه الأحاديث الثابتة رأى كثرة حياء النبي - صلى الله عليه وسلم-، وأنه كان جامعا ًبين نوعي الحياء الغريزي والمكتسب. ففي الغريزي كان أشد من العذراء في خدرها، وأما المكتسب فقد كان في الذروة العليا منه. وكلا النوعين محمود، مطلوب، وسبب لزيادة الإيمان؛ لأنه يكون تخلقا واكتسابا كسائر أعمال البر، وقد يكون غريزة، ولكن استعماله على قانون
الشرع يحتاج إلى اكتساب، ونية، وعلم، فهو من الإيمان، ولكونه باعثاً على أفعال البر، ومانعاً من المعاصي، ومُعْفَىً من الفواحش،
وناهيا عن المنكرات، فلا يأتي منه إلا خير(5). و ترجمت لنا سيرته العطرة حقيقة ذلك الحياء، وتمكّنه من خلقه وسلوكه العملي، في مواقف شتى، منها زواجه من زينب بنت جحش -رضي الله عنها-. فقد كان - صلى الله عليه وسلم- حديث عهدٍ بأهله، والأضياف في بيته قد حضروا وليمته، وطعموا حتى شبعوا،
وظلّوا مستأنسين بالحديث في غفلةٍ عن حال النبي - صلى الله عليه وسلم- وتكدّره من طول بقائهم، و هو يستحي
أن يواجههم بأمر الخروج من بيته، و الانفراد بعروسه! حمله الحياء على أن يترك أخصّ حقوق نفسه في ليلة البناء بأهله، والشوق إليهم، وتحمّل مشقة الحرج من أصحابه الذين أكرمهم بضيافته،
والتناول من مائدته، على أن يصارحهم بما يجول في خاطره، وما يعتمل في نفسه؛ إيثاراً للحياء، وحرصاً على توفير الراحة والانبساط لهم. فتولّى الرحمن – سبحانه- أمره، ورفع عنه ما أهمّه، وأنزل قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، يصدع بما للنبي - صلى الله عليه وسلم-
من الحقّ العظيم من الاحترام والتوقير، والآداب المتعّينة له على أصحابه و أمته. ويدعونا في الوقت نفسه إلى الاقتداء به، والتحلي بهذا الخلق الفاضل، فمن استحيا من الله – سبحانه- حق الحياء رأى نعمه وآلاءه،
واستشعر إساءته وتقصيره، وبادر بالخيرات، وترك المنكرات، ومن استحيا من نفسه عفّها وصانها في الخلوات،ومن استحيا من الناس
كف أذاه عنهم،وترك المجاهرة بالقبيح والسيئات(6).
الهوامش:
(1) صحيح البخاري (24)، و مسلم (36). (2) هذا لفظ مسلم، صحيحه ج2/052، وللحديث طرق في الصحيحين. (3) متفق عليه صحيح البخاري (3369)، ومسلم (2320). (4) ينظر: مدارج السالكين (2/259). (5) ينظر: فتح الباري ( ج10/ص522)، وشرح النووي: ج2/ص5، أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم- في القرآن والسنة (1/485). (6) ينظر : أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص 243).
لئن كان خلق الأمانة والوفاء عظيماً في سائر الناس؛ لما له من الأثر الكبير في صلاح أمر الدنيا والدين، فإنه في أنبياء الله ورسله أعظم،
وفي حقهم أوجب وألزم، فطرهم الله ورباهم عليها ليتمكّنوا من تبليغ رسالاته إلى خلقه، وكان نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم-
في الذروة العليا من هذه الأخلاق والسجايا الكريمة، وكماله فيها فاق كل كمال. لقد نشأ يتيماً مطبوعاً على الأمانة والوفاء بالعهد، فلا يكاد يعرف في قومه إلا بالأمين، فيقولون:جاء الأمين، وذهب الأمين،
وحلّ في نفوسهم وقلوبهم أعلى منازل الثقة والرضى!!(1) كما دلّ على ذلك احتكامهم إليه في الجاهلية في قصة رفع الحجر الأسود عند بنائهم الكعبة المشرفة، بعد تنازعهم في استحقاق شرف رفعه ووضعه في محله،
حتى كادوا يقتتلون، لولا اتفاقهم على تحكيم أول داخل يدخل المسجد الحرام، فكان هو محمد - صلى الله عليه وسلم-
فلما رأوه قالوا: (هذا الأمين، رضينا هذا محمد)(2). و بلغ من ثقتهم الكبيرة في أمانته ووفائه ما اعتادوا عليه من حفظ أموالهم ونفائس مدّخراتهم لتكون وديعة عنده، ولم يزل
هذا شأنهم حتى بعد معاداته بسبب نبوّته، ودعوتهم إلى الإيمان، ونبذ عبادة الأوثان، فلم يخالجهم الشك في أمانته و وفائه!
ومما يدل على ذلك ترك علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بمكة بعد هجرته - صلى الله عليه وسلم- ليرد للناس ودائعهم التي كانت عنده،
حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم-.(3) ولقد تحقق ذلك الخلق العظيم بأتمّ معانيه، وأحسن مراميه بعد نبوّته - صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الله تعالى أراده خاتماً لأنبيائه ورسله إلى الناس كافة،
و لا يُمكّن من ذلك إلا أمين كامل الأمانة، يحظى بثقة الناس فيستجيبون له ويؤمنون به. و أدّى نبينا - صلى الله عليه وسلم- شرع ربنا - تبارك وتعالى- كما أراده الله - عزّ وجل-، وبلّغ آياته فلم يكتم منها حرفاً، وإن كان عتاباً له ولوماً،
وشهد له في كتابه بهذا البلاغ الكامل حتى تمّ الدين، وظهر الإسلام قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً) [سورة المائدة:3]. و إن من المواقف العظيمة في أمانته ما رواه سعد -رضي الله عنه- قال لما كان يوم فتح مكة اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفان،
فجاء به حتى أوقفه على النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث،
ثم أقبل على أصحابه فقال: (أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله) فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك،
ألا أومأت إلينا بعينك؟ قال: (إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين)(4). و أما الوفاء فله منزلة عظيمة في أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم-، فكان أوفى الناس مع ربه - تبارك و تعالى-، و مع أصحابه، وأزواجه،
وذويه، بل وأعدائه!. و من أروع المواقف النبوية التي تتجسد فيها هذه السجية الفاضلة ؛ وفاؤه لحاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- مع فعلته الكبرى،
وهي إفشاؤه لسر النبي - صلى الله عليه وسلم- في أشد المواقف خطورة، موقف الغزو الذي لا تغفر البشرية لمثله؛ لأنه تجسس وخان خيانة عظمى. فقد كتب حاطب إلى أهل مكة يخبرهم بمقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إليهم بجيشه لفتح مكة، وأرسله خفية مع ظعينة له، فلما أطلع الله
- تعالى- نبيه - صلى الله عليه وسلم- على ذلك، ومكّنه من إحباطه، وراوده بعض أصحابه على ضرب عنقه،
قال - صلى الله عليه وسلم-: (إنه قد شهد بدراً، و ما يدريك لعلّ الله اطّلع على من شهد بدراً فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)(5). فانظر إلى مبلغ وفائه لأصحابه! وإن عظمت زلّة أحدهم، أو كبر خطؤه، ما لم يكن في حدّ من حدود الله – سبحانه-، أو تهاون بشرعه،
و أمكن تدارك الخطر قبل وقوعه. و لاشك أن هذا الوفاء الفريد، والتصرف الرشيد، سيعزز حبّ ذلك الصحابي للتوبة النصوح من هذا الذنب الذي لا يبرره خوفه على أهله وذويه في مكة. وهكذا كانت شمائل النبي - صلى الله عليه وسلم- حقائق عملية في مواقف الحياة المتنوعة، تربي النفوس وتهذبها على معاني الفضيلة،
وتغرس في القلوب روائع الإيمان بالله - عزّ وجلّ-.
(1) انظر هذه المقالة في أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم- للدكتور/ أحمد الحداد (2/538ـ 574) نقلتها باختصار. (2) سيرة ابن هشام (1/28)، وطبقات ابن سعد (1/146). (3) سيرة ابن هشام (2/237). (4) رواه أبو داود (4359)، و الحاكم ( 4360)، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. (5) رواه البخاري (5/184)، ومسلم ( 2494).
عن موسى بن أنس عن أبيه قال: "ما سئل رسول الله صلى الله على الإسلام شيئاً إلا أعطاه، قال فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين"
فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء لا يخشى الفاقة.(1) وعن شهاب قال: "غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح فتح مكة ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المسلمين
فاقتتلوا بحنين فنصر الله دينه والمسلمين وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ صفوان بن أمية مائة من النعم ثم مائة ثم مائة. قال بن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب أن صفوان قال: والله لقد أعطاني رسول الله ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي فما برح
يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي.(2) وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال: لا"(3) لئن كان الكرم جامعاً لمكارم الأخلاق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ليتمم مكارم الأخلاق قد بلغ فيه منزلة الكمال والعظمة،
وقد شهد له ربه سبحانه بعظمة خلقه عموماً، وبالكرم خصوصاً فقال تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم)(4) وقال سبحانه: (إنه لقول رسول كريم)(5). وصفه في هذه الآية بالكرم خاصة دون غيره من الأخلاق العظيمة التي أثبتها له سبحانه لأثر الكرم على سائرها، وأنها مندرجة تحته، تابعة له.(6) لقد منح النبي صلى الله عليه وسلم من السخاء والجود حتى جاد بكل موجود، وأثر غيره بكل مطلوب ومحبوب، حتى مات ودرعه
مرهونة عند يهودي على أصع من شعير! وقد حكم جزيرة العرب، وكان فيها من قبل ملوك لهم خزائن وأموال، يقتنونها ذخراً ويتباهون بها فخراً، ويستمتعون بها شراً وبطراً. وحاز صلى الله عليه وسلم ملك جميعهم، فما اقتنى ديناراً ولا درهماً، يعطي الجزيل الخطير، ويصل الجم الغفير، ويتجرّع مرارة الإقلال،
ويصبر على سغب الاختلال، وعنده غنائم هوازن وهي من السبي ستة آلاف رأس، ومن الإبل أربعة وعشرون ألف بعير،
ومن الغنم أربعون ألف شاة، ومن الفضة أربعة آلاف أوقية، فجاد بجميع حقه، وعاد خلواً، فهل لمثل هذا الكرم والجود كرماً وجوداً؟! هيهات.(7) ولذا كان سخاء النبي صلى الله عليه وسلم مستفيضاً عند أصحابه، نقلوه لنا حتى بلغ حدّ التواتر، وتمّ لهذه الدلائل الخبرية
شواهد عمليّة ثابتة في سائر أحواله تجلي لنا حقيقة الكرم النبوي الفريد الذي لا يباري في مضماره، ولا يجارى في ميدانه، ولا يراد به الرياء والشهرة والصيت! دهش لكرمه ذاك الرجل حين أتاه، إذ فاق نوال النبي صلى الله عليه وسلم آماله التي عقدها على كرام الناس، حين أعطاه الكريم صلى الله عليه وسلم
غنماً بين جبلين، لم يحسب عدد رؤوسها عليه!. فانبهر لسخائه العظيم وهرع لقومه فرحاً مستبشراً بهذا الرزق الواسع الذي غمره بلا أدنى عناء وهو يقول:
يا قوم أسلموا فإن محمد يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة. إيهٍ وربي، أيخشى الفاقة من اتصل قلبه بمولاه تعالى، وتعلق فؤاده بمالك الملك جلّ جلاله، فكان يقينه بما في يده سبحانه من خزائن السماوات والأرض،
أعظم مما في يده، ورجاؤه بما لديه سبحانه من النعيم المقيم في الجنة أعلى وأغلى مما يراه من متاع الدنيا!. لقد هانت عنده لذة الدنيا وزينتها، فأعطى
وأهدى وتصدّق في وجوه الخير والبر، وبلغ من كرمه أن لا يرد سائلاً ما طلبه، بل يعطي تفضلاً بلا سؤال ولا يتبعه بالمنّ والأذى، عطاءً سمحت به نفسه،
وجادت به يمينه، ورضيه بلا تردد، ناسباً الفضل كله لله وحده وأنه مجرد قاسم بين الناس حظوظهم.
تعوّد بسط الكف حتى لو أنه * ثناها لقبض لم تجبه أنامله هو البحر من أي النواحي أتيته * فلجّته المعروف والجود ساحله ولو لم يكن في كفه غير روحه * لجاد بها فليتق الله سائله ـ 8 ـ
فلا تعجب أن كان جديراً بأن يحضى بمودّة الناس وإعجابهم، وامتلاء قلوبهم من حبّه كما ملأ أيديهم من جوده،
قال صفوان: والله لقد أعطاني رسول الله ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليّ . وظلّ عطاؤه للمؤلفة قلوبهم في أول الأمر طمعاً في إسلامهم، قال أنس رضي الله عنه: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يسلم
حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها.(9) ومن هنا نرى أثر النيّة الصالحة في طرح البركة في العطاء، والهبة، والصدقة، كم تثمر من الآثار الطيبة، والمعاني الخيّرة والأجور المدّخرة
التي لا تبلغها لولا الإخلاص لله تعالى، وابتغاء مرضاته.
الهوامش:
(1) صحيح مسلم ج4، 806. (2) صحيح مسلم ج4، 806. (3) صحيح مسلم ج4، 805. (4) سورة القلم: 4. (5) سورة الحاقة: 40. (6) أنظر في هذا الموضوع: أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن (2/647). (7) أعلام النبوة للماوردي (ص302). ـ 8 ـ عزاه بن رجب في لطائف المعارف (95) لبعض الشعراء يمدح بها، قال: وما تصلح إلا أن تكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم. (9) شرح النووي (15/72).
إذا كان الصدق خلقاً تدعو إليه الفطرة وتحبّذه – ولو لم يكن هناك شرع يدعو إليه ويرغب فيه- فإن كل ذي فطرة سليمة يحافظ عليه ويلتزم به على كل أحواله. وقد اشتهر بعض أشراف العرب بذلك قبل الإسلام لأغراض دنيوية، واعتبارات اجتماعية، فإذا عُلم من أحدهم كذباً سقط من اعتبارهم،
وانتزعت الثقة منه، وباء بخسارة تجارته وانتقاص منزلته. أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد تحقق فيه خلق الصدق والمروءة بأبهى صورها منذ بزوغ نجمه، ونعومة أظفاره،
واطراد شبابه، محبة له وقناعة بقيمته وحسن عاقبته، فما كان يعرف في قومه إلا بالصادق والأمين ولماً يوح إليه بعد.(1) وحينما اختاره ربه تبارك وتعالى لتبليغ رسالته، وبيان شريعته، كان رسوخ الصدق في شمائله عظيماً والداعي إليه كبيراً،
حيث كان من دلائل نبوته، وأمارات اصطفائه . ويؤكد ذلك قول الله تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)(2) وقوله تعالى: (قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم)(3). فكانت رسالته هي الصدق كله والحق عينه، ويستحيل أن ينحرف لسانه أو يتطرق إلى منطقه وسلوكه حرف زور أو ميل وجور،
ولذا فإن تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن آفة الكذب عمداً أو سهواً واجبٌ بالدليل الشرعي، والعقلي، والبرهان السابغ والإجماع. إن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة، رسالة دائمة على ممر الزمان ويستحيل عقلاً وواقعاً تواتر العمل بها واستمرائها من غير
مقومات راسخة ودعائم متينة من الصدق الذي لا تحريف فيه ولا كذب في نقل الخبر وبيان الأثر. فالثبات والاستمرارية يتطلبان ضرورة وجود العصمة في نقل الأخبار حتى تتلقاه الأمة، ويستقر تعلقه في الذمّة.(4) ولقد كانت هيئة النبي صلى الله عليه وسلم وقسماته النيرة شاهداً آخر على مبلغ مكانته من الصدق، في الجد والهزل، والقول والفعل،
وأنه الصادق المصدق، كما ثبت من الحبر عبدالله بن سلام (رضي الله عنه) الذي ما إن رأى النبي صلى الله عليه وسلم حتى استيقن صدقه
وعرف أن وجهه ليس بكذّاب، وأعلن إسلامه وتبرأ من كيد اليهود وتكذيبها وعنادها. وأجاد عبد الله بن رواحة حين قال:
لو لم تكن فيه آيات مبينة ** كانت بديهته تنبيك بالخبر(5)
وكانت شهادة زوجه خديجة (رضي الله عنها) في أوائل نبوته وبدء نزول الوحي عليه بالصدق المعهود والمروءة التامة من دلائل اصطفاء الله له،
وبشائر إرادة الخير له، وحفظه من كل سوء، قالت: "أبشر، فو الله لا يخزيك الله أبداً، فو الله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث...".(6) فهذه شهادة من خبر أخلاقه، وسبر أحواله، وعرف سيرته ولا ينبئك مثل خبير. قال الكاتب المستشرق الانجليزي (Heg Wells): "إن من أرفع الأدلة على صدق محمد كون أهله وأقرب الناس إليه يؤمنون به،
فقد كانوا مطلعين على أسراره، ولو شكّوا في صدقه لما آمنوا به."(7)
الهوامش:
(1) ينظر: أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة (1/412). (2) سورة النجم، الآية: 3-4. (3) سورة النساء، الآية: 170. (4) ينظر: شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم ص480. (5) أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة (1/412). (6) متفق عليه. (7) الإسلام والرسول في نظر منصفي الشرق والغرب (32).
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سبعة يظلهم الله يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل ...".(1) وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ". (2) العدل مطلب إيماني مقدس، وخلق رباني نفيس، كيف لا وقد أنزله المولى سبحانه على رسله قرينا للكتاب الذي يهدي الناس لتوحيده وعبادته، قال تعالى: ( وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ).(3) إنه أساس الدين، به قامت السماوات والأرض، وبعثت الرسل، وأنزلت الكتب، وصلحت الحياة، وشرفت الآخرة، ونصبت الموازين،
وثبتت القرب من الرب تعالى يوم الدين. والإسلام دين العدالة، وأمته الأمة الوسطية، التي اختار الله لها نبيها محمد صلى الله عليه وسلم المصطفى على الناس برسالات الله،
خير من تعبّد الله تعالى بالعدل والإحسان في القول والحكم والمعاملة، مع النفس والناس، القريب والغريب، مع ما تهيأ له من أسباب القوة والنفوذ والسلطة. وإن موقفا واحدا من بطولات عدله صلى الله عليه وسلم لينطلق بمعانٍ غزيرة من الإنصاف يعجز عنها البيان ويكّل منها الوصف. ذلكم موقفه صلى الله عليه وسلم مع امرأة انتهكت حدا من حدود الله سبحانه؛ تروي لنا عائشة رضي الله عليها أن قريشا
أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: ومن يكلم فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه
إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلّمه أسامة فقال رسول الله: "أتشفع في حد من حدود الله! ثم قام فخطب ثم قال: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد،
وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". (4) لعمر الله ما أعظم هذا القسم بالله، وما أعظم ما أقسم به، لقد عاهد ربه سبحانه أن يحكم بين الناس بالعدل ولو كان الظالم بضعة منه،
وحاشا ابنته رضي الله عنها أن تتلطخ بهذا الذنب، ولكنه منطق الحق ومقالة الصدق التي تجري أحكامها وتظهر آثارها على القريب
والبعيد والشريف والوضيع والمسلم والكافر. لقد كان الحبيب صلى الله عليه وسلم قوّاما بالعدل بل يتعداه إلى الفضل والإحسان ويرغب أصحابه وأمته بفضله،
كما في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله يوم القيامة، فجعل في مقدمة المثابين بالظلال الوارفة، والأفياء
الباردة في يوم تدنو فيه الشمس الحارقة من رؤوس الخلائق، الإمام العادل وبدأ به قبل غيره لما في إقامة العدل بين الناس
من صلاح أمور الدين والدنيا، واستقامة شؤون الحياة وانتظام أمر الدولة. وفي الحديث الآخر كان المقسطون الملتزمون به في كل ما أمر به هم أحباب الله تعالى : ( إن الله يحب المقسطين) (5)، الذين يقربهم من جلاله يوم العرض الأكبر ويشرفهم بدنوه منهم، ويجلسهم على منابر من نور. منابر ليست مقاعد ولا كراسي، بل منابر عالية يجلسون عليها رفعة لهم وعزة وكرامة، لاستعلائهم على شهواتهم وترفعهم عن أهوائهم. من نور يضئ بهم زيادة في تشريفهم ونعيمهم ليراهم الخلق أجمعون. وختام ذلك الفضل العظيم الدنو من الرب جل جلاله، وأكرم به من نعيم وشرف كبير، " على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين " ما أعظمك ربنا وما أكرمك، وما أوسع فضلك وما أبلغ ثوابك. وما أحرانا أن نتحلى بهذا الخلق العظيم مع أنفسنا وأهلينا وما ولّينا.
الهوامش:
(1) صحيح البخاري ج6/496. (2) صحيح مسلم ج3/458. (3) سورة الحديد: الآية 25. (4) صحيح البخاري ج3/282. (5) سورة المائدة: الآية 42.
عن علي رضي الله عنه قال" كنا إذا حمي البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يكون أحد منا أدنى إلى القوم منه ".(1) عن أنس بن مالك قال ذُكِر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " كان أحسن الناس وكان أجود الناس وكان أشجع الناس
ولقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلقوا قِبَل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس
لأبي طلحة عري ما عليه من سرج في عنقه السيف وهو يقول: " يا أيها الناس لن تراعوا " يردُّهم، ثم قال للفرس: " وجدناه بحرا " أو " إنه لبحر ". قال حماد: وحدثني ثابت أو غيره قال: كان فرسا لأبي طلحة يُبطَّأ فما سبق بعد ذلك اليوم ".(2) لقد امتاز الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام بعزيمة قوية، وشجاعة نادرة، لكمال إيمانهم وقوة يقينهم بالله، وصدقهم مع الله تبارك وتعالى،
وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في قمة هذه الأوصاف، من الشجاعة الأدبية والقتالية، فكان ثابت الجنان عند مخاطبة
أهل الكفر والطغيان لا يخاف في الله لومة لائم، وظل مقداما شجاعا في مقارعة الأعداء والصبر على اللأواء. حيث حضر المعارك الحاسمة، والغزوات الطاحنة، التي تبلغ ( 27 ) غزوة بدءاً بغزوة ( بواط ) وانتهاءً ( بتبوك ) فثبت كالطود العظيم،
شامخا مقداما في أشد أوقات الأزمة والمحنة، وكان الأبطال المبرزون يحتمون ويتترسون به من ضرب السيوف ورمي السهام،
وهو أقرب المقاتلين إلى العدو يواجههم ويقاتلهم ثابت القدم، رابط الجأش، مطمئن القلب (3). وظلت شجاعته صلى الله عليه وسلم في الصورة المثلى التي لا يدانيه في مثلها أحد من الشجعان، مما يجعل نواصي الأبطال في
تاريخ البشرية تتواضع لشجاعته وإقدامه إكبارا له وتبجيلا. وهذا التميز الفريد سوّغ له أن يكون مأمورا بقتال المشركين إذا واجهوه ولو كان وحده، لكمال شجاعته(4),
كما في قوله تعال( فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرّض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا ) [ النساء : 84 ]. كان محمد صلى الله عليه وسلم شجاعا لكن في رحمة، وجريئا صنديدا لكن في الحق، بطلا في تواضع وحكمة. على عكس ما قد يحصل لكل شجاع مغوار مغتر ببطولته، طاغ في قوته ونفوذه وجبروته. فحين يلوح نذير خوف يذعر الناس ويفزع القلوب نرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم أول من ينطلق قِبَل الداعي، يسبق الفرسان
الشجعان بأقرب فرس يركبه ليسرع به إلى مراده، ولفرط شجاعته وسرعة نجدته لم ينتبه لسرج فرسه ولم يكترث بعريّه منه. ويمضي صلى الله عليه وسلم مستطلعا الأمر، مستجليا الحقيقة، على دابة غدت كالبحر في سرعة هيجانه وتقلب أمواجه،
فإذا الصوت المفزع ضرب من المعتاد من الحيوان أو الجماد. فانقلب الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى الناس يطمئنهم ويبشرهم بالأمان بقوله " يا أيها الناس لن تراعوا ". يقف وحده في الميدان ومواجهة الأخطار، ويردهم عن الخروج في طلب أثر الصوت لئلا يشق عليهم النفير إليه. فيا لله .... أي قوة تفتق منها هذا الرفق، وأي بأس جر معه ذلك الحرص على الناس قبل النفس.
على قدر أهل العزم تأتي العزائم * وتأتي على قدر الـــكــرام الـمـكـــارم وقفت وما في الموت شك لواقف * كأنك في جفن الردى وهو نائم تمرّ بــك الأبــــطــال كلــمى هـــزيمـــة * ووجـــهــــك وضــــاح وثـــغــــرك بــــاســم (5)
الهوامش:
(1) المستدرك على الصحيحين ج 2/ص 155 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (2) هذا الحديث صححه الألباني صحيح سنن ابن ماجه ج2/ص384 برقم 2254. (3) ينظر شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم (ص 123). (4) ينظر تفسير ابن كثير (1/530) وتفسير القرطبي (5/90) وأخلاق النبي في الكتاب والسنة (3/1343). (5) أبيات من قصيدة أبي الطيب المتنبي.
عن عروة بن الزبير قال قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص أخبرني بأشدّ ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم
قال" "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال: ( أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم )"(1). وعن عائشة ( رضي الله عنها) زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشدّ من يوم أحد؟
قال: " لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على بن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت،
فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني
فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال؛ فسلم علي،
ثم قال: يا محمد فقال ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله
من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً (2). * * * * نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أكثر الرسل دعوةً وبلاغاً وجهاداً، و من ثم كان أكثرهم ابتلاءً وإيذاءً و أعداءً،
بل كان الابتلاء حليفه منذ ولادته يتيما فاقداً أباه ثم أمه متنقلاً من حضن إلى حضن، تكلؤه عناية الله، وتحوطه مبرته،
حتى أشرقت شمس الدعوة إلى الله تعالى، وحينها اشتد الأذى بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولاقى من قومه وعشيرته
وقرابته ما يشيب منه النواصي، ويزلزل الجبال الرواسي! لقد نصبوا له العداء، فرموه بكل ما قدروا أن يرموه به من السحر والكهانة والشعر والجنون، وغير ذلك مما درجوا على التفوّه به زوراً وبهتاناً،
وهو البراء من ذلك كله، فلازم الصبر الجميل الذي تواتر حضّ الله عز وجل به نبيه صلى الله عليه وسلم
وأمته به في مواضيع كثيرة من كتابه الحكيم كما في قوله: (واصبر وما صبرك إلا بالله) (3) وقوله تعالى: (فاعبده واصطبر لعبادته) (4) ،وقوله تعالى: (واصبر نفسك من الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) (5). وما فتئ القرآن الكريم يذبُّ عنه افتراءاتهم، ويدحضُ أباطيلهم، فتبوء أقوالهم بالخيبة والخسران. وحتماً.. لشريفُ القدر، العظيم الهمة، الكريم المعدن، لا يقدر على تحمل ذلك؛ فقول الزور والبهتان ينزل على مسامعه وقلبه كالصواعق،
فتهد كيانه، وتشغل فؤاده، حيث يعلم براءة نفسه، وعزة أصله، وصدق منطقه، ثم هو بما يمتلكه من إحساس مرهف ورقة مشاعر يضيق صدره بما يقلون،
وتتألم نفسه عند سماع تلك الأقوال الباطلة الأفاكة، لاسيما من قومه وقرابته الذين يعرفون أمانته وصدقه كما يعرفون أنفسهم وأبنائهم.
وظلم ذوي القربي أشدُّ مضاضة ** على النفس من وقع الحسام المهند(6)
ويعظم البلاء به صلى الله عليه وسلم لعظم جهلهم وتمادي طغيانهم وقسوة قلوبهم، حتى بالغوا في إيذاء الحبيب صلى الله عليه وسلم جسديا ومعنويا
– بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم – فأُخِذ بتلابيب ثوبه حتى سقط على ركبتيه، ولوي عنقه بالثوب حتى خنق خنقاً شديداً،
ووضع سلا الجزور على ظهره الشريف، وهو ساجد لربه تعالى! (7). ورمي بالحجر حتى أدميت قدماه، ودبر قتله في مكيدة عظيمة، وشق وجهه، وخرج طريداً من الطائف مهموم القلب حائراً ... يدعو مولاه سبحانه
ويشكو إليه ضعف قوته وقلة حيلته، وهوانه على الناس، مناشداً رب المستضعفين مستعيذاً بنور وجهه الذي أشرقت له الظلمات أن ينزل به غضبه،
أو يحل به سخطه! فيرسل له ربه له ملك الجبال ويراوده أن يطبقها على مكذبيه إن شاء فيجيبه: بل أرجو أ يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً" ! فعجباً ثم عجباً لصبره الجميل وتحلمه الذي عز عن المثيل! صبر.. يستحيل العذاب معه إلى لذة مناجاة، وقرب من مولاه! صبر .. يرتقب من زواياه الضيقة وآلامه المبرحة أفقاً رحباً وأملاً ممتدا لأمة توحد الله وتعظم حرماته وتحقق شريعته.
الهوامش : (1) صحيح البخاري ج4/814 برقم(7). (2) متفق عليه، صحيح البخاري ج/3180 برقم (3059) وصحيح مسلم ج3/420. (3) سورة النحل، الآية: (127). (4) سورة مريم، الآية: (65). (5) سورة الكهف، الآية: (28). (6) من قصيدة طرفة بن العبد الكعبي. (7) ينظر إلى كاتب هذه المقالة إلى أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة ( 1/440 ) فيه مبحث رائع لصفة الصبر.