زمن قاضي الصلح خير يُزيح شحناء المتخاصمين زمن قاضي الصلح خير يُزيح شحناء المتخاصمين ظلت مهنة القضاء على مر الزمان وتعاقب الدول والممالك، إحدى ركائز بناء المجتمعات بحواضرها وبواديها، وفي قرى المملكة كان القاضي قبل نصف قرن من الزمان يحظى بمهامه القضائية وربما الاستشارية التي يثق ويستأنس بها ولي الأمر وعامة الناس، بل ان القاضي كان كثيراً ما يكلف بإدارة شؤون البلدة أو القرية، في حال غاب عنها الأمير أو السلطان -لاسيما إن كانت البلدة صغيرة-، ما يدلل على سهولة تبوّء منصب القاضي في ذلك المجتمع، بعد أن يتحصن بالعلوم النافعة ويجتاز قبل ذلك شروط التأهيل الشرعي. سماحة نفوس قبل أكثر من (50) عاماً لم يكن قاضي البلدة، أو حتى المدينة، يقف أمام حزمة من الطرود والقضايا والمعاملات، التي ينوء بحملها عصبة من الرجال، ولم يكن ذلك لعدم حاجة القرية أو البلدة إلى قاضٍ يفصل في منازعاتهم ويقيم حدود الله فيهم، لكنها أحوال أبناء ذلك الزمان وبساطة عيشهم، التي استدعتها ظروف معيشتهم وقناعة طموحهم وسماحة نفوسهم، إذ قل ما يرد القاضي قضايا تستلزم تطبيق الحدود أو الحكم بالسجن والإبعاد أو التغريب، وبقدر ذلك كانت القضايا شبه محصورة على أحوال العدة والطلاق والمواريث والإحداثات والأراضي، يدخل الخصمان من باب واحد ويخرجان في غالب أحوالهم كأنما تصاحبا في رحلة سفر، وإن بقي في النفوس شيء من الجفوة فهو في الغالب لن يطول، إذ إن المسجد وزيارة الجار واجتماعات أهل القرية، كفيلة بوأد الشقاق، وقطع أسباب الفراق، كما أن الأرحام والقرابات وحقوق الجوار، كانت كفيلة بتطهير القلوب وصفاء النفوس، وليس ذلك وصفاً لرجال المدينة الفاضلة، بقدر ما هو واقع عاشه الآباء والأجداد ونقله المؤرخون عن واقع عاصروه وتعايشوا معه، وهو عكس ما يحدث اليوم من رفض بعض الأشخاص ل»العفو» وشطبه من قواميسهم. إجازة القضاء كان القاضي يُعيّن بعد أن يحصل على الإجازة الرسمية في القضاء، وربما كان له أن ينال أكثر من إجازة من عدد من الشيوخ والعلماء، الذين درس هو على يدهم، ونهل من معين علومهم، لاسيما في مجال القضاء الشرعي، وهم ذات الرجال الذين امتحنوه وتقصوا مؤهلاته الشرعية وحسن مداركه ورجاحة عقله، بل إن بعضهم كان ينتقل بحثاً عن طلب العلم ويحرص أثناء تنقله أن يتزود بما يستطيع من العلوم الشرعية بمختلف مذاهب علماء السنة، بل إن تنقلات البعض منهم لا تقف على حدود الجزيرة العربية بل تتعداها إلى الشام والعراق ومصر، ناهيك عن حرصهم على تلقي العلماء الكبار الذين يفدون من كافة بقاع العالم الإسلامي أثناء مواسم الحج والعمرة. وتنقل لنا الكتب ونوادر المخطوطات، كيف التقى بعض علماء الشرق بالغرب في أروقة البيت العتيق، أو في رحاب الحرم النبوي، وكيف كانوا يتداولون المعلومات والقضايا المتعلقة بمهام عملهم وأداء واجباتهم الشرعية والوظيفية. تعدد المهام لم تكن مهام القاضي في كثير من البلدات تقتصر على القضاء وفصل النزاعات، بل كان القاضي يمثل وجهاً من وجوه أعيان البلد، فهو مستشار للأمير والسلطان، وهو في غالب أحواله إمام القرية وشيخ البلدة، وربما كان خطيبها ومفتيها، بل ربما احتسب أجر إقامة شعائر الأذان والإقامة، وتكفل بحفظ أموال اليتامى وحقوق القصر، كما يطرق العامة باب منزله -بحكم أنه القاضي- بطلب الشهادة على الأوقاف أو «الهبات» أو النكاح، كونه مأذون البلدة، وقد تستدعيه كفاءته العلمية ومكانته الاجتماعية كونه أحد أعيان البلد والمؤهل الوحيد لحمل ختم القضاء الذي يزدان بين أصابع كفه الأيمن، إلى أن يُرسل في المهام الخاصة، لاسيما حين الأزمات والمجاعات أو الحروب. إيقاف الحروب وكثيراً ما تنقل لنا كتب التاريخ عن مفاوضات العلماء لقادة الجيوش الغازية، لاستدراك ما يمكن استدراكه لإيقاف ويلات الحروب والغارات، ويذكر المؤرخون كيف كان دور العلماء والقضاة الذين أرسلهم الإمام «عبدالله بن سعود بن عبدالعزيز» إلى «محمد علي باشا» -والي مصر- حين حصار الأخير لبعض بلدان الجزيرة العربية، كما ينقل «ابن بشر» ومن عاصره من مؤرخي الجزيرة العربية وحتى المؤرخون المصريون والفرنسيون الذين أرخوا لحملات «محمد علي»، أن الشيخ «عبدالعزيز الحصين» استطاع -وهو حينذاك رجلاً طاعناً بالسن- أن يمنع «إبراهيم باشا» من إشعال نار الحرب من جديد، بعد أن شعر الأخير أن أهالي شقراء استمروا في قتاله ولم يذعنوا لشروط الصلح الذي أبرم فيما بينه وبينهم. مفاوضة الخصوم وتكاد تكتظ كتب التاريخ في القديم والحديث، بذكر قصص وفود العلماء والقضاة على السلاطين وقواد الجيوش الغازية، إذ كثيراً ما يتم اختيار القاضي للحديث مع الخصوم والتفاوض باسم البلدة المحاصرة أو المستهدفة بالحملة العسكرية. ويذكر «ابن كثير» ومعاصروه كيف خرج الشيخ «أحمد بن عبدالحليم بن تيمية» من دمشق الشام، لمفاوضة قائد التتار السلطان «قازان»، وكيف فاوض «ابن خلدون» الطاغية «تيمور لنك» حين حصاره لدمشق، بل كيف كان دور علماء وقضاة الأندلس في استرداد أراضيهم وممالكهم التي انتهبها رجال «الفونسو» أثناء حروبه مع ملوك الطوائف، وكيف استدعى هؤلاء العلماء قادة وجيوش المرابطين ومن بعدهم الموحدين، لاستعادة المدن الأندلسية المحتلة، ناهيك عن موقف الإمام «العز بن عبدالسلام» مع السلطان المملوكي المظفر «قطز»، وتشجيعه على خوض غمار معركة «عين جالوت»، ضد جحافل التتار القادمة من المشرق بقيادة «كتبغا» الملقب ب»شارب الدماء»، ولعل الاستدلال على دور القضاة والعلماء في هذا الشأن يطول بالقدر الذي يطول معه ذكر مآثرهم. رجاحة العقل كان من أهم الشروط الواجب توفرها بالقاضي بعد اكتمال الشروط الشرعية، أن يتصف بالحلم والأناة ورجاحة العقل والفطنة، وكذلك ثبات النفس واكتمال المروءة والصبر على استعراض القضايا وتحمل أعباء العمل، وغيرها من المواصفات والشروط التي اجتهد العلماء في حصرها وجمعها في مؤلفاتهم، كما حرص القصاصون على التقاط ما نقل لهم من مجالس القضاء، فيما تفرغ أهل التراجم إلى ترجمة سيرهم وحكاياتهم، لاسيما من عرف واشتهر منهم بالذكاء والفطنة كالقاضي «شريح بن الحارث الكندي» و»إياس بن معاوية المزني» و»سوار الأكبر» وحفيده «سوار الأصغر» و»عافية بن يزيد»، وإن كان «إياس بن معاوية المزني» أكثر من اشتهر بالذكاء، وله في ذلك قصص وأعاجيب لا تخلو من الفطنة والطرفة، وقد ألمح إلى كثير منها الشيخ «عبدالرحمن رأفت الباشا» في كتابه صور من حياة التابعين، حين خصص للقاضي إياس ترجمة شاملة، التقط فيها روائعه في مجلس القضاء، حتى إن العرب كانت وما زالت تضرب المثل في ذكائه مستشهدين بقول «أبي تمام»: إقدام عمرو في سماحة حاتم بحلم أحنف في ذكاء إياس متابعة الحقوق ومن القُضاة من لازم القضاء ومتابعة القضايا والحقوق، وعزف عن أعمال التدوين والتأليف والمراجعة العلمية، بل إن منهم من دفعه القضاء إلى عدم الخروج للمتاجر والأسواق، تورعاً وخشية أن يكتسب بعلمه أو يداهن لمنصبه، بل إن القاضي «ابن شداد» الذي عاصر «صلاح الدين الأيوبي» ولازمه بعد موقعة حطين، كان ممن أوكلت له مهام السفارة والاستشارة عاش قرابة القرن من الزمان عازباً لم يتزوج. قلة المتنازعين في القرى وفي البلدان الصغيرة يحكي لنا الأجداد عن حالهم وحال من سبقهم، أن القاضي لم يكن يحتاج في بعض القضايا والمنازعات إلى حفظ الرقاع والأوراق، بسبب ندرة القضايا وقلة المتنازعين من أهل البلدة، إضافةً إلى لجوء القضاة إلى الشهود و»المُزكين»، هذا في حال نسي القاضي مجريات الشكوى، أو أن عهده بها قديم، ناهيك عن قلة الإمكانات وبساطة العيش التي سهلت من دور القاضي، وخففت عليه أعباء عمله القضائي والتنفيذي، ناهيك عن محدودية السكان والأهالي الذين يعرفهم القاضي كما يعرف أبناءه، ومع هذا فإن القاضي حريص على ما أمر الشرع بكتابته وتقييده من معاملات الديون والزواجات وعقود النكاح ما استطاع إلى ذلك سبيلا. تقدم تقني في زمننا هذا ازداد حجم المهام والقضايا المناطة بالقضاة، بحكم التقدم في العلوم المختلفة، لاسيما الطبية منها والجنائية، أو ما يتعلق بقضايا نسب المواليد واللقطاء وأطفال الأنابيب وزراعة الأعضاء، وغيرها من مستجدات العلوم الحديثة، إضافةً إلى ملفات الأنظمة بكافة صورها وأشكالها المدنية والإدارية، ناهيك عن حكم القضاة في التجارة والاقتصاد وفرص الاستثمار والعقار. وأصبح التواصل التقني و»التكنولوجي» ضرورة لمواكبة تطوير القضاء والسلك القضائي، وهو ما دعا بلادنا أن تساير هذه المتطلبات الملحة وأن تعمل على فصل القضايا وفقاً لمساراتها الحقوقية، حتى أصبحت القضايا والمنازعات تبحث الآن في دوائر قضائية مستقلة ومتنوعة بتنوع مضامينها وتخصصاتها ويتلقى القاضي اليوم سيلاً من المعاملات والطرود والقضايا أمام طوابير من الناس والمراجعين، كما أصبحت عمليات تدوين وأرشفة المحفوظات تتم عبر شعب وإدارات مستقلة تتكامل مع ما سواها من الدوائر القضائية في منظومة عدلية يستطيع القاضي من خلالها أن يطلب أصول القضية وسوابقها، لاسيما وأن دخول وسائل التقنية الحديثة ساهم أيضاً في التثبت من هويات المراجعين وأصحاب القضايا، كما نظّم الأرشفة الالكترونية، التي تتيح للقاضي الاطلاع على تاريخ العريضة التي أمامه عبر الطرفيات والنوافذ الحاسوبية، التي تستجيب له بمجرد ضغطة أزرار لوحة المفاتيح الخاصة بحاسوب مكتبه. دوائر عدلية هذا التقدم الإجرائي والعملي طال بعض الدوائر العدلية المتمثلة في فروع كتابة العدل ومحاكم الضمان والأنكحة، ومع هذا فما تزال الحاجة ماسة إلى ضرورة توسيع دائرته حتى يغطي كافة الدوائر والمرافق العدلية، التي تتكامل في مهامها وسير أعمالها مع دوائر أخرى، سواء كانت أمنية أو خدمية، لا سيما وأن المراجع اليوم لمقار المحاكم ودوائر العدل يلحظ حجم القضايا المتجددة التي تستوجبت على القاضي -الذي كان لزاماً عليه مواكبتها وتتبعها ومن ثم قياسها بمقياس الشرع الحكيم- أن يقتص جزءًامن وقته لمواكبة دراسة ما يستجد له في ميدان عمله. 
بوابة مصدة وسط الرياض عام 1362هـ حيث كانت المشاكل الاجتماعية تحل بالطرق الودية 
المحكمة الكبرى في الرياض قديماً 
تستقبل المحكمة العامة عديدا من القضايا المتنوعة 
تصالح المجتمع قديماً مع ذاته لم يترك مجالاً واسعاً للتدخل الرسمي 
بعض القضايا في الفترة الحالية لا يتم التوصل فيها إلى صُلح 
اهتمام القاضي بالحقوق يجعله لا يغادر منزله 
بساطة الحياة قللت الخصومة بين الناس 
التعامل الكترونياً مع القضايا سهل مهمة المراجعين |