إذا ذكرت اللغة العربية ذكر الجاحظ كأحد أبرز أعلامها على امتداد تاريخها، حيث تجاوزت مؤلفاته الثلاثمائة والخمسين كتاباً في شتى المعارف الإنسانية، لعل أشهرها «الحيوان» و«البيان والتبيين» و«البخلاء» و«المحاسن والأضداد».
وأيضاً إذا ذكر الجاحظ ذكر دفاعه المجيد عن اللغة العربية، وتصديه لأعدائها من الشعوبيين في محاولتهم لانتقاصها والحط منها، واثباته عملياً قدرة العربية على التعبير عن شتى الموضوعات بما فيها الموضوعات العلمية، وتلك التي كان التعبير عنها مقتصراً على الشعر دون النثر، فاستحق أن يلقبه معاصروه والمتأخرون عنه ب«
شيخ العربية».
والجاحظ اسمه أبو عثمان بن بحر (775 - 868) أديب عصامي ينحدر من أسرة فقيرة ذات أصل أفريقي، وأدت وفاة والده وهو بعد في سن غضة إلى اضطراره للعمل مبكراً، إلا أنه استطاع بعصامية شديدة أن يثقف نفسه، حتى لقد قيل انه لم يترك في مساجد البصرة وحلقات درسها كتاباً إلا واطلع عليه مستوعباً، حتى إذا ما اكتمل اطلاعه، توجه إلى بغداد حاضرة الخلافة العباسية، وكان لمؤهلاته الفكرية والثقافية ما قربه إلى الخليفة المأمون الذي أولاه ديوان «الرسائل».
يُعد الجاحظ من أعلام الكتاب في تاريخ الأدب العربي ومن الفنانين الذين كان لهم طابع خاص في طريقة الأداء الفني ظلت تنتقل من جيل إلى جيل ومن عصر إلى عصر، وعاش الجاحظ في العصر العباسي أي منذ أكثر من ألف ومائتي عام، وامتاز العصر العباسي بين العصور الأدبية بازدهار الثقافة وانتشار الثقافات الأجنبية من هندية وفارسية ويونانية ورومانية، وتقابلت هذه الجداول المتعددة مع جداول الثقافة العربية في هذا العصر وظهر أثر هذا الامتزاج في أدب أدباء هذا العصر ومنهم الجاحظ الكاتب العربي الخالد.
لم يكن الجاحظ إماماً لمسجد أو شيخاً لطريقة أو معلماً في مدرسة حتى يمكن أن يكون على صلة بالدين أو الأدب، إنما كان تاجراً بسيطاً يبيع الخبز والسمك، غير أن طبيعة الحياة في هذا العصر كانت تملي على الناس التزود بالثقافة والارتشاف من مناهل العلم، فكان الجاحظ يلجأ إلى دكاكين الوراقين وبائعي الكتب ليشتري ما طاب له من كتب وأشعار وساعده على ذلك ما وهبه الله من قريحة نفاذه.. وملكة صافية نحو الأدب. واغتنى بعد ذلك من كتبه فأعطاه الوزير ابن الزيات خمسة آلاف دينار على كتاب الحيوان، كما أعطاه وزير آخر خمسة آلاف على البيان والتبيين وأعطاه إبراهيم العباس خمسة آلاف دينار على كتاب الزرع والنخيل.
وكان الجاحظ يقضي الساعات الطوال في تقليبه هذه الأشعار وقد يصرفه ذلك عن الطعام أو الشراب ويجن عليه الليل وهو جالس في أحد أركان الدكان يتصفح الكنوز الأدبية على ضوء مصباح خافت ضئيل، ولذلك كانت كتب الجاحظ أشد بدوائر معارف واسعة جمعت شتى الطرف. ووضع كتابه (البيان والتبيين) قواعد للبلاغة في اختيار اللفظ وانسجامه مع المعنى وفي الخطابة ونحو ذلك، ثم التزم ذلك فيما كتب.
ثقافة واسعة
وكان مثقفاً ثقافة واسعة. ثقافة دينية في فروعها المختلفة وثقافة فلسفية إذ كان أحد أعلام الفلاسفة في ذلك العصر وقرأ ما نقل إلى العربية من الفلسفة اليونانية في فروعها المختلفة.
وكان مثقفاً ثقافة أدبية ارتشف من شيوخ الأدب وحصل منهم على أقصى ما يمكن أن يحصله إنسان. ومزج كل ذلك وهضمه ثم أخرجه للناس تأليفاً ممزوجاً وكاد بتآليفه الكثيرة أن يحسن كل موضوع في عصره من سياسة واجتماع واقتصاد وحيوان ونبات وشعوب ونحو ذلك، وخير ما يوضح هذه الاتجاهات العديدة كتاب الحيوان الذي وضعه في سبعة أجزاء، وليس الكلام فيه على الحيوان فقط إنما اشتمل على ألوان متعددة من المعرفة.
كان
الجاحظ أحد أدباء ثلاثة نهضوا بالنثر الفني من دور الطفولة إلى دور الشباب وهم عبدالحميد الكاتب، وعبدالله بن المقفع وأبو عثمان الجاحظ، ويقال عن كتب الجاحظ انها رياض مزهرة وأشجار مثمرة.
وكان ابن العميد وهو أحد الأدباء العرب المعروفين يقول: إن الناس عيال على الجاحظ في البلاغة والفصاحة (أي يعولهم)، وقيل لأحد الأدباء لماذا لا تهجو الجاحظ في كتاباتك وهو الذي آلمك في حياتك؟ فقال: أمثلي يخدع في عقله! والله لو وضع رسالة في أرنبة أنفي لما أمسيت إلا بالصين شهرة! وأنا لو وضعت فيه ألف رسالة لطنت طنين الذباب..!
كتب الجاحظ في مختلف الموضوعات، فكتب في النبات والشجر والحيوان، وكان يعتني باللفظ والمعنى ويعتقد أن خير الأدباء من هيأ رسم المعنى قبل أن يهيئ رسم الألفاظ، وكان الأدباء العرب فيما قبل الجاحظ يعتمدون في أسلوبهم على اللفظ أكثر مما يعتمدون على المعنى ويؤثرون موسيقية اللفظ وإيقاع الفقرات على لباب الفكرة.
في بغداد اتصل الجاحظ بالعلماء والمفكرين والأمراء، وأتيح له أن يضيف إلى معارفه معارف أخرى حيث اطلع على الآثار الأدبية العلمية الفارسية والهندية واليونانية، فزادت معارفه ثراء وتنوعاً.
وتتميز كتابات الجاحظ بالنزعة الفنية، ودقة اختياره للفظ وبعد ألفاظه عن الخشونة والغرابة، ووحشى الكلام، حتى في كتاباته الفلسفية والعلمية، إذ كان جرس الكلمة، والبديع غير المتكلف والميل إلى الفكاهة والأسلوب السلس، السمة المميزة لكتاباته، وقد لقب بالجاحظ لجحوظ عينيه، ولعل هذه الصفة فيه كانت من أسباب تشبع روحه بالسخرية والفكاهة، وهو ما يكشفه عملياً كتاب «البخلاء» وما حواه من نوادر وطرف، بعضها صور فيه الواقع بلا رتوش، وبعضها انتحلها بمهارة للسخرية من الشعوبيين وأعداء الخلافة، فلا يكاد القارئ يحس فرقاً أو تكلفاً وانتحالاً، كما يبرز الكتاب قدرة الجاحظ الفائقة على دفع السأم عن قرائه من خلال مراوحته في أسلوب بين الأحاديث الطويلة والرسائل المسهبة والنوادر المقتضبة، في عرضه للنماذج المتباينة من مظاهر البخل، والطريف أن نجاح الكتاب، أدى إلى تشويه سمعة صاحبه، حيث سعى أعداؤه إلى إلصاق تهمة البخل به، عبر زعمهم بأنه وضع الكتاب درءاً ومداراة لهذه الصفة الكامنة فيه.
روح السخرية
سواء أكان الجاحظ بخيلاً أم لا، فإن الحقيقة المؤكدة التي تفرض نفسها على قرائه، أنه كان أديباً مشبعاً بروح السخرية، ذا براعة فائقة في الوصف، ودقة في التصوير، تنبعث من تأصل الفكاهة في نفسه، ولعل هذه الروح الساخرة كانت دافعة لأكثر من طرفة رواها عن نفسه، ومنها ما أورده من أن امرأة لمحته يوماً جالساً في السوق، فتوقفت أمامه، ورمقته بنظرة غريبة ملياً، ثم طلبت منه أن يتبعها لأمر ما، فسار خلفها دون أن تكلمه كلمة واحدة، حتى إذا ما وصلا إلى متجر صائغ قالت المرأة للأخير: مثل هذا؟! وانصرفت من فورها، فسأل الجاحظ الصائغ عمّا تعنيه، فأجابه بأنها جاءت له قبلاً بخاتم وأرادت أن ينقش عليه صورة شيطان فلما اعتذر لها بأنه لم ير شيطاناً قبلاً، ولا يعرف شكله، غابت وعادت إليه بالجاحظ ليصنع على مثاله صورة للشيطان.
وامتازت كتابات الجاحظ أيضاً بالواقعية والوضوح، وكان يمثل عصره تمثيلاً صحيحاً بدون زخرفة ولا زركشة، وكان يصور عصره بما فيه من حضارة وأبهة حكماء وعقلاء وحمقى ومفطنين! وكان إلى جانب هذا يعمد إلى السخرية في أسلوبه، ويلجأ إلى التصوير الكاريكاتوري في معانيه فيثير الضحك والسخرية، وكان يعتقد أن خير الأساليب لمعاملة عدوك أن تجعله سخرية للناس، ومن أجل ذلك تهكم على أعدائه، وصورهم تصويراً فيه كثير من الطرافة والتفكه، فأحمد بن عبدالوهاب رجل قصير القامة ويزعم أنه طويل القامة وهو قصير الأصابع ويزعم أنه رشيق الأصابع، وهو عتيق الوجه يبدو عليه الكبر والشيخوخة، ويزعم أنه لم يتخط سن الشباب، وهو جهول ويزعم أن الله قد وهبه سعة في العلم، كما وهبه سعة في الجسم، وهو عندما يمشي يبدو كأنه مربع ويزعم أنه معتدل كالسهم! وما إلى ذلك من صور طريفة تدعو إلى السخرية والضحك!
وتأثر الشاعر ابن الرومي بهذه الصور الطريفة في شعره فرسم لنا في أشعاره صوراً من هذا القبيل وعلى هذا النمط، فأعطانا صورة الرجل البخيل الذي يكاد من فرط بخله يتنفس من منخار واحد، كما أعطانا صورة الرجل المتدين والكاذب الذي يرسل لحيته لتضليل الناس فشبهها بمخلاة الحمار ولكنها مخلاة فارغة ليس فيها شعير!.
طواعية واختيار
ويمتاز الجاحظ في أسلوبه العربي بالتوقيع الموسيقي بين العبارات إلا أنه لا يتعمد ذلك تعمداً ولا يتكلفه تكلفاً إنما يأتي عن طواعية واختيار. كما يمتاز بالاستطراد في أسلوبه والتكرار، وقد دعته إلى هذا كثرة الموضوعات التي اشتملت عليها كتبه كما لاحظ ذلك المستشرق المعروف «كارادي فو».
يُعد كتاب البخلاء من أمتع الكتب التي ألفها الجاحظ وأطرفها، وقد روى الجاحظ في هذا الكتاب طرائف شتى عن البخلاء، ومما رواه أن مروان بن أبي حفصة أرسل غلامه ليشتري له زيتاً بقرش فأتى الغلام بالزيت فقال له مروان: خنتني وسرقتني! قال: وفيم أخونك وأسرقك؟ أخونك وأسرقك في قرش واحد! قال: نعم أخذت القرش واستجديت الزيت.
ومن الطرائف التي رواها كذلك أن شيخاً بخيلاً كان يزور ابن المقفع الأديب العربي فألح عليه ابن المقفع أن يتغدى عنده في منزله، إلا أن الشيخ كان يماطله في ذلك، فكان ابن المقفع يقول: هل تظن أنني سأكلفك شيئاً! إنني لن أتناول إلا ما عندك. وأخيراً دعاه الشيخ إلى منزله للغداء فلم يجد عنده سوى كسرة من الخبز وقليلاً من الملح فقدمه له ومر بالباب سائل يقول: بورك فيك فألح في السؤال فقال له الشيخ: انصرف عن وجهي وإلا نالك مني سوء، فقال له ابن المقفع: انصرف أيها الرجل في هدوء فلو علمت قصتي معه ومماطلته في دعوتي لانصرفت في الحال دون كلمة أو إشارة!.
يبدو أن معظم كتب الجاحظ قد ضاعت، مثلها مثل كثير من كتب الأباء العرب والمسلمين، وهذا الضياع شكل خسارة كبيرة للمكتبة العربية، وكان سببه الفوضى السياسية، والخصومات والصراعات الكثيرة التي عصفت بالأمة الإسلامية ايام الدولة العباسية، والتي ادت بدورها إلى التدمير والانتقام والتخريب، وأسهمت فيما بعد في ضياع كثير من مخطوطاتنا الأدبية.
وكان الجاحظ في جميع ما كتبه عبقريا، موسوعيا، يدل على ثقافته الغزيرة، وعقله الوافر، وقدرته الكبيرة على الحفظ والترتيب والتبويب، ولاننسى فضل الوراقين الذي أمدوه بكثير من مادته العلمية، ولاعجب أن يكون لكتب الجاحظ تأثير كبير على الأباء الذين أتوا بعده، إذ أسهمت هذه الكتب في تقويم السنتهم، وزيادة ثقافتهم، فنهلوا منها، وأخذوا عنها، فقد كان الجاحظ في رسائله ومصنفاته باحثا علميا، من حيث تعليلاته واختياراته، ولايبزه اي باحث آخر في العصر القديم والحديث، ولقد كان قدوة للكتاب بعده، فكثر طلابه ومقلدوه، وكثر خصومة وأعداؤه في الوقت نفسه، اذ حسدوه على قدراته الكثيرة، وعلى صبره، وعلى كتبه الكثيرة، وعلى الحظوة التي نالها من الخلفاء والوزراء ورجال الدولة، وقديما قالوا: «كل ذي نعمة محسود»، إلا أن خصومه على الرغم من هجومهم الشديد عليه وتحاملهم، لم يتمكنوا من اسقاطه، فقد كان الرجل قامة شامخة، لايزيدها الهجوم إلا شهرة وشموخا، والغريب في الأمر ان الذين هاجموه وحطوا من قيمته، قد قلدوه في طريقة كتابته، وأخذوا طريقة كتابته، واخذوا طريقته في ترتيب موضوعاتهم وتبويبها، فعلى سبيل المثال نجد ان ابن قتيبة الذي كان يكره الجاحظ، قد سار على خطاه في كتابه «عيون الأخبار»، اذ «قلده في تناول الأغراض المختلفة، وبحث مثله عن الطبائع والأخلاق والحيوان والبخلاء والطعام»، ومن ا لأدباء الذين تتلمذوا على كتابة الجاحظ ابو العباس المبرد، وابن عبد ربه الأندلسي، وأبو القاسم الآمدي، والقاضي الفاضل، أما ابن العميد فقد سلك طريقة الجاحظ من حيث قصر الجملة وتقطيعها، والإكثار من الشواهد الشعرية والنثرية، ولا أحد يستطيع ان ينكر مكانة الجاحظ العلمية الرفيعة مهما كان جاحدا، ومختلفا معه، وكارها له، فكتب الجاحظ «تجلوا صدأ الأذهان وتكشف واضح البرهان، لأنه نظمها أحسن نظم، ورصفها أحسن رصف، وكساها من كلامه أجزل لفظ. وكان إذا تخوف ملل القارئ وسآمة السامع خرج من جد إلى هزل، ومن حكمة إلى نادرة طريفة «كما يقول المسعودي عنه في كتابه مروج الذهب ومعادن الجوهر. وكتب الجاحظ «تعلم العقل أولا، والأدب ثانيا»، كما يقول ابو الفضل بن العميد لصديقه ابى القاسم السيرافي. واما القاضي الفاضل فإنه يقول في الجاحظ
:
الدعابة المجدية
«وأما الجاحظ فما منا معشر الكتاب الا من دخل داره، أو شن على كلامه الغارة». اما الجاحظ فقد كان يعرف قدر نفسه، ويعرف قيمة كتاباته، وقدرتها على النفاذ إلى القلوب العامة والخاصة، وجذبهم، والتأثير فيهم، فها هو يقول في مقدمة كتابه الحيوان: «وهذا كتاب تستوي فيه رغبة الأمم، وتتشابه فيه العرب والعجم، لأنه وإن كان عربيا أعرابيا، واسلاميا جماعيا، فقد اخذ من طرف الفلسفة، وجمع بين معرفة السماع وعلم التجربة، وأشرك بين علم الكتاب والسنة، وبين وجدان الحاسة، واحساس الغريزة، ويشتهيه، الفتيان كما تشتهيه الشيوخ، ويشتهيه الفاتك كما يشتهيه الناسك، ويشتهيه اللاعب ذو اللهو كما يشتهيه المجد ذو الحزم، ويشتهيه الغفل كما يشتهيه الفطن».
كان هدف الجاحظ في كتابته ان يقدم للناس جديدا وبديعا، يستميل به قلوبهم بالدعابة المحببة، والهزل والفكاهة اللذين يبعدان السام والضجر عن نفوسهم، وكان حريصا، في جميع أعماله، على استرضاء عامة الناس من ذوي الثقافات المتوسطة، ولم ينس في الوقت نفسه استمالة خاصة القوم من المثقفين والحكام ذوي الثقافات العالية في الآداب والعلوم والفلسفة، وفن السياسة والأخلاق، والفقه واللغة والبيان، وجميع، معارف العرب في تلك الفترة الذهبية من العصر العباسي. لقد كان في كتاباته جادا مرة وضاحكا ساخرا مرة أخرى، وأديبا مرة أخرى، وفيلسوفا في بعض الأحيان، وهو يعلل ذلك قائلا في رسالته الموسومة ب(التربيع والتدوير): «ولو استعمل الناس الرصانة في كل حال والجد في كل مقال لكان السفه الصراح خيرا لهم.. ولكن لكل شيء قدر ولكل حال شكل، فالضحك في موضعه كالبكاء في موضعه».
إن الجاحظ هو أول أديب عربي يخرج بالكتابة العربية السائدة آنذاك من دائرة النقل والرواية إلى دائرة الاستنباط والإبداع، ووصف الواقع، وتصوير عاداته بجرأة كبيرة لم تشهدها الكتابات العربية قبله، فقد صور أخلاق مجتمعه وحياة سكانه من دون رياء أو نفاق، حيث صور خفايا المجتمع، وطبقاته، وخيره وشره ولصوصه وشحاذيه، وعبيده، ومغنياته، وخلفائه، ووزرائه، وقضاته، وقادته، وأهل الذمة فيه من المجوس والنصارى واليهود، وتحدث عن الحيوان والنبات، والعرب والعجم، والشعوب وعاداتها وفضائلها، وهو ينتقل في ذلك من حادثة إلى أخرى، ومن حكاية إلى أخرى، ومن آية قرآنية كريمة إلى حديث نبوي شريف، ومن قصيدة إلى أخرى، ثم نراه يدلف إلى شوارع المدن التي عاش فيها ليصف الأزقة والحوانيت الصغيرة والكبيرة، ودور النخاسة والجواري فيها، ثم يدخل قصور الأغنياء، ويصف ترفها ونعيمها وبطرها. ولم ينس أن يدخل بيوت البصرة وبغداد وسامراء البسيطة، ليصف سكانها ببؤسهم وفقرهم ومعاناتهم، لقد وصف الشعب بكل طبقاته، وعاداته وقيمه، وأعرافه. ومن هنا أحبه الناس لأنهم رأوا في كتبه شيئا جديدا، لم يسبقه إليه أحد من قبل.
لقد أثرى الجاحظ المكتبة العربية بأهم المؤلفات التي تركت اثرا عظيما في الأدب العربي والثقافة العربية، ولا نغالي إذا قلنا ان الأدب العربي ابتداء من العصر العباسي حتى أيامنا هذه لم يعرف كاتبا كبيرا وموسوعيا حقق حضورا قويا في مجالس الأدب والعلم والمعرفة مثل الجاحظ، ولم يعرف كاتبا أكثر تأليفا للكتب والرسائل الأدبية من هذا الرجل العظيم الذي استوعب ثقافة عصره، والثقافات الأجنبية الأخرى الوافدة على هذا العصر.
وكانت نهاية شيخ الساخرين كحياته كما قيل. تحت أكداس الكتب التي عشقها وأفنى عمره فيها قارئا ومنقبا وكاتبا، حيث سقطت على رأسه فأودت به.
وعلى الرغم من بعد المسافة الزمنية بيننا وبين عصره فإنه يظل حاضرا في نفوسنا وأذهاننا حضورا كبيرا واليفا. إذ تظل كتاباته منهلا عذبا ننهل منه الفصاحة والبيان والجمال الأدبي والحكم والمواعظ وفلسفة الحياة والمعارف الغزيرة المختلفة.
منقووووووول