رد: أوروبا حال الفتح الإسلامي للأندلس موسى بن نصير ومواجهة العقبات أولا: بناء الموانئ وإنشاء السفن عمد موسى بن نصير أول أمره في سبيل تجاوز عقبات الطريق إلى الأندلس إلى إنشاء السفن؛ فبدأ في سنة سبع وثمانين أو ثمان وثمانين ببناء الموانئ الضخمة والتي يبنى فيها السفن، وهذ وإن كان يعد أمرا يطول أمده إلا أنه بدأه بهمة عالية وإرادة صلبة؛ فبنى أكثر من ميناء في الشمال الإفريقي، كان أشهرها ميناء القيروان (المدينة التي فتحها عقبة بن نافع). ثانيا: تعليم البربر الإسلام وفي أثناء ذلك أيضا عمد موسى بن نصير إلى تعليم البربر الإسلام في مجالس خاصة لهم كما الدورات المكثفة تماما، حتى إنه بدأ في تكوين جيش الإسلام منهم أنفسهم، وهذا الصنيع من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن نجده عند غير المسلمين؛ فلم توجد دولة محاربة أو فاتحة غير الدول الإسلامية تُغيّر من طبائع الناس وحبهم وولائهم الذي كانوا عليه، حتى يصبحوا هم المدافعين عن دين هذه الدولة المحاربة أو الفاتحة، خاصة وإن كانوا ما زالوا حديث عهد بهذا الفتح أو بهذا الدين الجديد،فهذا أمر عجيب حقا، ولا يتكرر إلا مع المسلمين وحدهم، فقد ظلت فرنسا - على سبيل المثال - في الجزائر مائة وثلاثين عاما ثم خرجت والجزائريون ظلوا كما كانوا على الإسلام لم يتغيروا، بل زاد حماسهم له وزادت صحوتهم الإسلامية، علّم موسى بن نصير البربر الإسلام عقيدة وعملا، وغرس فيهم حب الجهاد وبذل النفس والنفيس لله سبحانه وتعالى، فكان أن صار جُلّ الجيش الإسلامي وعماده من البربر الذين كانوا منذ ما لا يزيد على خمس سنين من المحاربين له. ثالثا: تولية طارق بن زياد على الجيش هو قبلة الجيش وعموده، بهذا الفهم ولّى موسى بن نصير على قيادة جيشه المتجه إلى فتح بلاد الأندلس القائد البربري المحنك طارق بن زياد، ذلك القائد الذي جمع بين التقوى والورع والكفاءة الحربية وحب الجهاد والرغبة في الاستشهاد في سبيل الله، ورغم أنه كان من البربر وليس من العرب إلا أن موسى بن نصير قدمه على غيره من العرب، وكان ذلك لعدة أسباب منها: الكفاءةلم يمنع كون طارق بن زياد غير عربي أن يوليه موسى بن نصير على قيادة الجيش؛ فهو يعلم أنه ليس لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر فضل إلا بالتقوى، فقد وجد فيه الفضل على غيره والكفاءة في القيام بهذه المهمة على أكمل وجهقدرته على فَهم وقيادة قومهإضافة إلى الكفاءة فقد كان من البربر، وذلك أدعى للقضاء على أيٍ من العوامل النفسية التي قد تختلج في نفوس البربريين الذين دخلوا الإسلام حديثا، ومن ثم يستطيع قيادة البربرجميعا وتطويعهم للهدف الذي يصبو إليه، ثم ولكونه بربريا فهو قادر على فهم لغة قومه؛ إذ ليس كل البربر يتقنون الحديث بالعربية، وكان طارق بن زياد يجيد اللغتين العربية والبربرية بطلاقة، ولهذه الأسباب وغيرها رأى موسى بن نصير أنه يصلح لقيادة الجيش فولاه إياه. رابعا: فتح جزر البليار وضمها إلى أملاك المسلمين من أهم الوسائل التي قام بها موسى بن نصير تمهيدا لفتح الأندلس وتأمينا لظهره كما كان عهده بذلك، قام بفتح جزر البليار التي ذكرناها سابقا وضمها إلى أملاك المسلمين، وهو بهذا يكون قد أمّن ظهره من جهة الشرق، وهذا العمل يدل على حنكة وحكمة عظيمة لهذا القائد الذي أُغفل دوره في التاريخ الإسلامي. مشكلة سبتة والعناية الإلهية استطاع موسى بن نصير أن يتغلب على قلة عدد الجيش من خلال البربر أنفسهم، كذلك تغلب على العقبة المتمثلة في قلة السفن نسبيا ببناء موانئ وسفن جديدة، وبقيت أرض الأندلس كما هي أرضا مجهولة له، وكذلك ظلت مشكلة ميناء سبتة قائمة لم تُحل، وهي -كما ذكرنا - ميناء حصين جدا يحكمه النصراني يوليان، وقد استنفد موسى بن نصير جهده وطاقته وفعل كل ما في وسعه ولم يجد حلا لهاتين المشكلتين، وهنا وفقط كان لا بد للأمر الإلهي والتدبير الإلهي أن يتدخل: [إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ] {الحج:38} . [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى] {الأنفال:17} . وهذا بالفعل ما حدث وتجسد في فعل يوليان صاحب سبتة وكان على النحو التالي: فكر يوليان جديا في الأمر من حوله، وكيف أن الأرض بدأت تضيق عليه وتتآكل من قِبَل المسلمين الذين يزدادون قوة يوما بعد يوم، وإلى متى سيظل صامدا أمامهم إن هم أتوا إليه؟ - كان يوليان مع ذلك يحمل الحقد الدفين على لذريق حاكم الأندلس ذلك الذي قتل غيطشة صاحبه الأول، وقد كان بينهما علاقات طيبة، حتى إن أولاد غيطشة من بعده استنجدوا بيوليان هذا ليساعدهم في حرب لذريق، ولكن هيهات فلا طاقة ليوليان بلذريق ولا طاقة لأولاد غيطشة أيضا به، ومن هنا فكان ثمة عداء متأصل بين صاحب سبتة وحاكم الأندلس؛ ومن ثم فإلى أين سيفر يوليان إن استولى المسلمون على ميناء سبتة؟ - الأمر الأخير الذي دار في خلد يوليان هو أن أولاد غيطشة القريبين منه كان لهم من الضياع الضخمة في الأندلس الكثير والتي صادرها وأخذها منهم لذريق قاتل أبيهم، وكان يوليان يريد أن يستردها لهم، وكان لذريق أيضا قد فرض على شعبه الضرائب الباهظة وأذاقهم الأمرّين؛ فعاشوا في فقر وبؤس شديد بينما هو في نعيم دائم ومُلك يتصرف فيه كيف يشاء؛ ومن هنا فكان شعبه يكرهه ويتمنى الخلاص منه. ومن تدبير رب العالمين أن اختمرت هذه الأفكار جيدا في عقل يوليان - وموسى بن نصير آنذاك قد استنفد جهده وحار في أمره - فإذا به يُرسل إلى طارق بن زياد والي طنجة (على بعد عدة كيلو مترات من ميناء سبتة) برسل من قِبَله يعرض عليه عرضا للتفاوض، أما تدبير العناية الإلهية والمفاجأة فكانت في بنود هذا العرض وهذا الطلب العجيب الذي نص على ما يلي: نسلمك ميناء سبتة. تلك المعضلة التي حار المسلمون أعواما في الاهتداء إلى حل لها؛ حيث كانت فوق مقدراتهم. نمدك ببعض السفن التي تساعدك في عبور مضيق جبل طارق إلى الأندلس. وكأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يقول: سأتم ما لم يستطع المسلمون إتمامه ووقفت عندهم قدراتهم، حتى ولو كان ذلك من قِبَل أعدائهم، وقد علمنا مدى احتياج موسى بن نصير لهذه السفن. نمدك بالمعلومات الكافية عن أرض الأندلس. أما المقابل فهو: ضيعات وأملاك غيطشة التي صادرها لذريق. وكان لغيطشة ثلاث آلاف ضيعة (ضيعة تعني عقَارُ وأرضٌ مُغِلَّةُ)، وكانت ملكا لأولاده من بعده، فأخذها منهم لذريق وصادرها. |